نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"لن أتخلى عن شبر من تراب لبنان الوطني"... ريمون إده واستشراف الواقع اللبناني الراهن - ايجي سبورت, اليوم السبت 29 مارس 2025 07:40 مساءً
ايجي سبورت - المؤرخ والباحث عبد الرؤوف سنّو
ليس من قبيل الصدفة أن يؤرخ الدكتور رياض نخّول لآل إده وإدائهم ومسيرتهم السياسية. فقد سبق له أن أصدر كتابا بعنوان: "إميل إده، رائد لبنان الكبير (1884-1949" في العام 2023 الذي أرخ لمرحلة نصف قرن، من إنشاء لبنان الكبير حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، مرورا بالانتداب الفرنسي على لبنان، والصدام بين الهوية اللبنانية والهوية العربية، والصراعات والتدخلات العربية، وقيام دولة إسرائيل. وفي موضوع كتابه الجديد: "ريمون إدّه (1913-2000)، عميد الديمقراطية اللبنانية"،
وهو نجل إميل الذي ورث السياسة عنه، وأصبح عميدا لحزب الكتلة الوطنية، استكمل المؤرخ نخّول نصف القرن العشرين المتبقي من تاريخ لبنان لآل إدّه. فاتسمت مسيرة الابن بالوطنية والدفاع عن الخصوصية اللبنانية، وعن مصالح لبنان العليا وأرضه وسيادته. وظل متمسكا بالوطن، والكيان، وبالنظام الديمقراطي، والدستور منذ استقلال لبنان، حتى وقوعه في مرمى الجيوبوليتيك لسورية وإسرائيل، واتفاق الدولتين على تقاسم النفوذ فيه، وفقا لـ "اتفاق الخط الأحمر" الذي رعته الولايات المتحدة بينهما. ولم تتوقف "حنفيته" عن الجريان طوال تلك الفترة، ما جعل علاقته بالقوى السياسية اللبنانية والخارجية مضطربة، من دون أن يتراجع مرة واحدة عن مواقفه المبدئية؛ فكان العميد "العنيد" الذي تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة جعلته يغادر لبنان.
وقد تضمن الكتاب أربعة فصول، تناول المؤلف فيها على التوالي محاور رئيسية من حياة إدّة السياسية: "في معترك السياسة اللبنانية"، و"مواجهة التحديات الكبرى"، و"موقفه من الحرب اللبنانية 1975"، و"ريمون إده في المنفى"، وأخيرا الخاتمة والملاحق. وسنضيئ في مراجعتنا للكتاب على موقفه من لبنان الوطن والكيان، ومن العروبة والوحدة العربية، ومطامع إسرائيل وسورية في لبنان، والسلام مع الأولى والندية مع الثانية، وأخيرا تأييده للقضية الفلسطينية ورفض الوجود العسكري للفدائيين على أرض لبنان أو إخلالهم بالتوازنات الطائفية السياسية التي قادت لبنان إلى حرب داخلية.
رأى ريمون إده أن لبنان، بالرغم من جغرافيته الصغيرة، ظل عبر التاريخ ملتقى حضارات تفاعلت على أرضه، وحولته إلى أرض مساحة إنسانية للتعايش بين المسلمين والمسيحيين. ويطالب بتعزيز فكرة المواطنة في "دولة قوية قابلة للحياة"، لتمتين هذا التعايش. ولا تزال المواطنة في لبنان من المسائل الآنية التي يؤدي غيابها إلى تعطيل التعايش بين اللبنانيين، وبالتالي احترام الإنسان وحريته وعيشه الكريم. ولهذا السبب، رأى إده وجوب اقتراح القوانيين واحترام الدستور. وبين العامين 1953، وحتى مغادرته لبنان في العام 1977، لم يكن ريمون إده مجرد مشترع بالاسم أو بالوجاهة، بل يورد الباحث نخّول، القوانين التي اقترحها في مجلس النواب، بهدف تنمية لبنان وتطويره. صحيح أن عددا منها لم يؤخذ به، أو وضعت في أدراج المكاتب، إلا أن أخطر مشروعين تقدم بهما، هما: الزواج المدني ومرابطة قوات دولية على حدود لبنان مع إسرائيل، ولم يؤخذ بالاقتراح الأول، فيما تحقق المشروع الثاني منذ العام 1978، بمرابطة قوات اليونيفيل في جنوب لبنان. وكونه محاميا، كان يدرك أهمية القانون، ما جعله يقول خلال شغله منصب وزير الداخلية في حكومة رشيد كرامي في العام 1958، لأحد كبار مساعديه العسكريين (قائد الفرقة 16): "استخدم العنف... ضد الزعران وفتوات الأحياء وقبضاياتها لقمعهم، ومنعهم من مخالفة القانون والنظام العام." فكان ريمون إده بذلك أهم وزير داخلية في تاريخ لبنان. ولو بقي حيا إلى اليوم، لكان اقتص بشدة من الذين يخرق القانون. إن عدم الاحتكام إلى القانون والدستور في العقود الأخيرة، في ظل غياب رجال دولة، تسبب في ويلات على لبنان، خصوصا في ظل الاحتلالين السوري والإسرائيلي للبنان، وتصدع الدولة والمؤسسات منذ العام 2000. ولإلغاء الطائفية، اقترح إدّه العلمنة الشاملة، معتبرا أن الطائفية طريق لضرب الوحدة الوطنية، من دون أن يبصر الاقتراح النور.
وفي موضوع مرتبط بالقانون، تمسك ريمون إدّه بالدستور المكتوب، رافضا المواثيق والتسويات الشفهية أو العابرة، بعدما سقط الميثاق الوطني في السنة الثانية من حرب لبنان. وكان مع تعديل الدستور لخلق نوع من التوازن بين المسيحيين والمسلمين، بهدف تثبيت الوحدة الوطنية. لكن زعامات مارونية رفضت ذلك. وكان بعيد النظر، بعدما أثبتت أحداث لبنان بعد حرب لبنان وجوب تحقيق هذا التوازن وفق اتفاق الطائف، لكن الاتفاق ظل حبرا على الورق في بعض بنوده. ومنذ الطائف وحتى اليوم، أضحى الدستور مجالا للتلاعب في ضوء الاحتلال السوري للبنان، والخلافات السياسية والصراع على الحكم والمحاصصة؛ سواء بالتلاعب بقوانين الانتخابات، أو التنازع على المؤسسات الدستورية والصلاحيات فيما القوى السياسية، حتى تفسير "وثيقة الوفاق الوطني" وفقا للمصالح الذاتية لا الوطنية. وفي موضوع هوية لبنان، اعتبر إدّه أن اللبننة ليست في مواجهة العروبة البعيدة عن التعصب والمشاريع الوحدوية، لأن لبنان لا يستطيع أن ينسلخ عن فضائه العربي، ولا عن هويته. وثبت من كلام إده أن لبنان بما عاناه منذ العام 2005، لا يستطيع الابتعاد عن الحضن العربي، إذا كان أشقاؤه العرب يجعلون منه أرض محبة وسلام واحترام.
ومنذ اندلاع حرب لبنان في العام 1975، وبدء تفكك الدولة وتصدع المجتمع، أطل التقسيم وحياد لبنان والفدرلة كحلول للأزمة اللبنانية، رفض إدّه أيا منها، مقترحا اللامركزية الإدارية، التي وردت في اتفاق الطائف ولم تنفذ. وأشار دكتور نخّول إلى أن عميد الكتلة الوطنية اعتبر أن المشاريع الثلاثة ليست في مصلحة المسيحيين. وإن خبت تلك المشاريع، فقد عادت لتطل برأسها اليوم منذ العام 2000، أي منذ أن وجد مسيحيون استحالة استعادة الدولة اللبنانية ومؤسساتها في ظل الفساد والاخلال بالدستور والقوانين، ومصادرة قرارها من قبل القوى السياسية والأحزاب المسلحة. وقد رفض إدّه تدخل الجيش في السياسة (المكتب الثاني)، والميليشيات في أثناء الحرب، ولم يلق أذانا صاغية. كلامه. فصادرت الميليشيات دور الدولة خلال الحرب وهمشتها، وفككت الجيش، وهيمنت على البلاد بعد الطائف حتى اليوم.
وبالنسبة إلى القضية الفلسطينية، يقول الباحث نخّول، إن إدّه اعتبر القضية الفلسطينية محقة، لكنه رفض ربط لبنان بها. ورفض كذلك، وجود سلاح فلسطيني على أرض بلده، إلا على أرض فلسطين. واستنكر تشريع السلاح الفلسطيني في اتفاق القاهرة العام 1969، وكان النائب الوحيد الذي عارض الاتفاق في مجلس النواب. واعتبر أن الفلسطينيين أخطأوا برفضهم تقسيم فلسطين في العام 1947. وربما اعتقد العميد في حينه أن إسرائيل سوف تكتفي بما استولت عليه من أرض فلسطين. لكن ما يجري على أرضها (القطاع والضفة) وحولها، يبيّن أن مطامع الصهيونية لا تتوقف على تقسيم العام 1947، وتسعى للتوسع في كل العالم العربي. ورأى إدّه أن نية إسرائيل هي الاستيلاء على الحاصباني والليطاني، فيما هي تتذرع بالفدائيين لضرب لبنان. وتخطط إسرائيل اليوم لمد حدودها حتى الليطاني. لهذا، اقترح إده بعد حرب العام 1967 مرابطة بوليس دولي على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، لمنع إعطاء إسرائيل الذريعة لتنفيذ مخططاتها تجاهه. ومنذ العام 1978، ترابط قوات اليونيفيل على حدود لبنان مع إسرائيل، ما يعني أن لبنان لو وافق في حينه على اقتراح إدّه، لربما تجنب مآسٍ كثيرة.
وباندلاع حرب لبنان، رفض إدّه مشاركة كتلته فيها، محذرا من تقسيم ولبنان وقبرصته بمسعى إسرائيل. واتهم الولايات المتحدة ووزير خارجيتها كيسنجر بالتخطيط للحرب الداخلية في لبنان لتنفيذ تقاسم لبنان بين إسرائيل وسورية والإمساك بالمقاومة الفلسطينية. وهذا جعل المسيحيين أمام خيارين: التقسيم وإقامة دولة لهم على أرض لبنان، أو الهجرة. فتحول لبنان في خلال حرب الحرب إلى كانتونات طائفية، فيما حصلت هجرات دافقة للبنانيين لا تزال مستمرة حتى الوقت الراهن.
ريمون إدة الذي رحل في العام 2000 في غربة بعيدا عن وطنه، لم يشهد ما حلّ من تفكيك للدولة اللبنانية، وتصدع لمجتمعها. فلو ملأ اللبنانيون يومها كؤوسا صغيرة من "حنفيته" الوطنية، فربما كان لبنان قد سلم اليوم من مخططات الداخل وتآمر الخارج.
أخيرًا، كلمة قصيرة عن شخصية الدكتور نخّول البحثية. لقد خاض الباحث مرتين غمار التأريخ لآل إدّه. وكثير من المؤرخين يتجنبون التأريخ لشخصيات سياسية في عالمنا العربي، لما في ذلك من حساسية وتشابك في المواقف والانتماءات. لكن تحليه بالموضوعية والجرأة، جعلتاه يبحث في تاريخ تلك الأسرة السياسي على مدى قرن كامل؛ تاريخ لبنان المعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين الذي أدى ريمون إدّه دوره فيه، وتغطية النصف الأول من القرن بكتاب عن أبيه الرئيس إميل إدّه، ما يعني مئة سنة من تاريخ لبنان الكبير. وهناك مسوّغ لذلك، أن المؤلفات عنهما قليلة جدًا، وقد أمدّنا بمادة تاريخية مهمة وجديدة. فعرف كيف يقمش المعلومات بنفس الباحث، معتمدًا على أصول ومحفوظات ريمون إدّه، إضافة إلى الأرشيف الفرنسي حتى ثورة العام 1958، وأرشيف مجلس النواب. وقد أثبت الدكتور رياض نخول، من خلال هذا العمل، أنه ليس مجرد مؤرخ يسرد الوقائع، بل باحث يمتلك حسًا نقديًا وطنيًا، وجرأة فكرية في مقاربة شخصيات سياسية مثيرة للجدل. فبأسلوبه الرصين، وحرصه على التوثيق الدقيق، نجح في تقديم قراءة موضوعية لتاريخ آل إدّه، مسلطًا الضوء على محطات مفصلية في تاريخ لبنان الحديث. ولا يعدّ هذا الكتاب مساهمة علمية في التأريخ السياسي والعائلي فحسب، بل هو أيضًا شهادة وفاء لرجالات الدولة الحقيقيين، ودعوة ضمنية إلى استعادة القيم التي دافع عنها ريمون إدّه. فكل التقدير للمؤلف رياض نخّول الذي أضاء لنا قرنًا من تاريخ لبنان، بموضوعية الباحث وصدقه الوطني.
.
0 تعليق