نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
تسالونيك 27: أفلام لإصلاح العالم في زمن السخط الشعبي - ايجي سبورت, اليوم الأربعاء 19 مارس 2025 04:54 مساءً
ايجي سبورت - اختُتِمت مساء الأحد الفائت الدورة السابعة والعشرون من مهرجان تسالونيك للفيلم الوثائقي (6 - 16 الجاري) بـ"مارلي ماتلن"، عن أول ممثّلة صمّاء فازت بجائزة "أوسكار"، وذلك بعد نحو اسبوعين من اعادة تعرّف الى العالم عبر السينما الوثائقية التي جاءتنا بآخر مستجداتها من أنحاء الأرض. هناك أفلام تهمس الحقائق وتلك التي تصرخ بها في وجوهنا، علماً ان المهرجان كان انطلق بـ"عن بطل" لبيوتر فينيفيتش، وثائقي حول العلاقة الراهنة بين صناعة الفيلم والذكاء الصناعي، انطلاقاً من السؤال عن مدى قدرة هذا الذكاء على إنجاز عمل يشبه أعمال المخرج الألماني فرنر هرتزوغ. هذا كله ضمن دورة نظَّمت أيضاً نشاطات عدة تواكب هذا الاختراع الجديد الذي يقلق الفنّانين بقدر ما يبشّرهم بالعصر الجديد الذي نقبل عليه. وجاءت هذه النشاطات من ندوات ولقاءات وعروض أفلام، تحت عنوان "AI، الذكاء الذي لا يمكن صرف النظر عنه".
شهدت أول أيام المهرجان اضطرابات أمنية وصدامات مع السلطة في أحياء المدينة وميادينها، بسبب ما يحدث من احتجاجات منذ أسابيع. حرق مستوعبات نفايات، مواجهات مع الأمن، قطع طرق وغازات مسيلة للدموع… في هذه الأجواء المتوتّرة، اضطر بعضنا للتوجّه إلى صالات العرض الموزّعة في أرجاء المدينة الساحلية الجميلة، وبعض هذه الصالات يقع داخل هانغارات تحمل أسماء رموز الفن السابع في اليونان، من جون كاسافيتيس إلى فريدا ليابا.
”عن بطل“، فيلم افتتاح مهرجان تسالونيك الأخير.
هذه ليست المرة الأولى منذ حضوري المهرجان، تنتفض فيها تسالونيك، فاليونانيون من أكثر الشعوب التي تلجأ إلى الشارع للمطالبة بحقوقها والتعبير عن سخطها. والواقع لا يبخل عليه بقضايا جديدة تستدعي التحرك. لكن في الأسابيع الأخيرة، شهدت المدن الكبرى هبّات شعبية ضخمة اذ وصل عدد المتظاهرين إلى نحو نصف مليون في أثينا و300 ألف في تسالونيك التي هي المدينة اليونانية الثانية من حيث عدد السكان. كل هذا اعتراضاً على النحو الذي تعاطت به الحكومة مع ملف اصطدام القطارين في اليونان قبل سنتين وأدى وقتذاك إلى مقتل أكثر من خمسين شخصاً. الكارثة التي حدثت بسبب الاهمال والفساد، حاولت السلطات لفلفتها على غرار ما حدث في لبنان في قضية تفجير المرفأ، فاكتفت بمحاسبة بعض من هم في أسفل سلّم المسؤوليات، لإيهام الناس بتحقيق العدالة المطلوبة. والحق ان التظاهرات مطلبية الطابع في الدرجة الأولى. فالشعب ضاق بالأوضاع وما عاد يملك القدرة على التحمّل، كما هي الحال في أماكن عدة من العالم. فالموضوع اجتماعي اقتصادي محض، وملف الحادثة مناسبة لرفع الصوت عالياً.
مسألة رفع الصوت هي ما يجمع الخارج والداخل، العام والخاص. الخارج أي الشارع، حيث الغضب العارم من الظلم والاهمال والفساد، والداخل حيث قاعات العرض التي تحضن أفلام مجموعة سينمائيين ينقلون أحوال العالم من شرقه إلى غربه بلغة التفاصيل والمفارقات والعمق، ومن خلال ضوء مسلط على الشاشة. اذا كان الخارج يغلي غلياناً، فالداخل لم يخلُ من أعمال تعبّر عن هذا الغضب المتمادي، حيث الشؤون الأكثر رفاهيةً تخاطب أولويات تأتي من أماكن مزنّرة بالبؤس والتخلّف والنزاعات التي لا تنتهي.
انطلاقاً من هذا الغليان الاجتماعي، شعر المنظّمون بضرورة الحديث عن ماضي اليونان، لعله يساعدنا في فهم الحاضر، عبر اختيار مجموعة من 19 وثائقياً ترينا الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في البلاد خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مرحلة تمتد من 1950 إلى مطلع القرن الحالي. وجاءت هذه الاستعادة تحت عنوان "جغرافيا النظرة: اليونان غير المخطط لها“.
هناك دائماً تحدٍ يواجهه مَن يغطّي المهرجان: كيف يختار ما سيشاهده بين هذا الكم الوفير من الأعمال الوثائقية، خصوصاً انها تحمل تواقيع سينمائيين غير معروفين يخوضون تجاربهم الأولى في بعض الأحيان. الملخصات التي ترافق الأفلام هي الحل الوحيد لالتقاط بعض المعلومات المفيدة، رغم ان المضمون ليس أهم ما نبحث عنه في أي فيلم، ويحملنا هذا إلى مناقشة مسألة أخرى هي مسألة وجود العديد من الأفلام داخل المهرجان، فقط لأنها تتناول قضايا آنية يجب ان تجد مكاناً لها تحت الشمس، بصرف النظر عن مستواها الفنّي والجديد الذي تأتي به على مستوى السينما.
261 فيلماً وثائقياً، طويلاً وقصيراً، شاركت في هذه الدورة، 71 منها تُعرض للمرة الأولى، وهذا إن دل على شيء فعلى المكانة التي بات يحظى بها هذا المهرجان وسط التظاهرات المعنية بالفيلم الوثائقي. والجمهور، أحد أركان هذا الحدث (تؤوي تسالونيك نحو مليون نسمة)، جاهز لتلقّي هذا الكم من المعلومات البصرية، على دفعات، مع ان عدد المشاهدين بدا لي أقل هذا العام ممّا كان عليه في الأعوام السابقة. بعض العروض المسائية لم يجمع أكثر من حفنة مهتمين وفضوليين. هل امكان متابعة الأفلام عبر منصّة المهرجان الرقمية (خدمة مدفوعة)، هو الذي أدّى إلى هذا التقلّص في عدد المشاهدين أم الأوضاع المتردّية التي تلقي بظلالها على الحدث، وتكبح رغبة الناس في الاطلاع على ما يشغلهم يومياً دونما الحاجة إلى الذهاب والبحث عنها في أماكن بعيدة.
الرئيس الأسبق للمهرجان الراحل ديمتري أيبيديس، وهو مؤسّسه أيضاً، كان يقول في كلمة بليغة ان هذا المهرجان "يصنع ناخباً أفضل"، وهذا ما يمدّه ببُعد سياسي اصلاحي رسالي، لا يمكن انتزاعه منه خصوصاً عندما نتحدّث عن الفيلم الوثائقي حيث الموضوع هو النجم الأول والأخير. حتى المخرج الفرنسي المكرَّم في هذه الدورة، الفرنسي نيكولا فيليبير، لم يخفِ ان كلّ أفلامه "سياسية"، رغم انها لا تنطوي على خطاب سياسي مباشر.
في هذا الصدد، كان للمنظّمين مؤتمر صحافي قبل انطلاق الدورة، أعربوا خلاله عن قلقهم حيال العالم الذي نعيش فيه. قالوا: "يُقام المهرجان هذا العام في لحظة حرجة لمنطقتنا وللعالم بأسره. المبادئ الأساسية لثقافتنا، أي الديموقراطية والحرية والتسامح، يُشكَّك فيها للأسف، بينما تتضاعف صرخات الكراهية بطريقة غاية في الخطورة. مرت أربعة أشهر منذ آخر مؤتمر صحافي عقدناه، ويبدو أننا أصبحنا نعيش اليوم في عالم مختلف تماماً. للأسف، ليس عالماً أفضل. قال البعض إننا في فيلم خيال علمي، لكنني لا أتفق مع هذا. فنحن لسنا في فيلم خيال علمي، بل في وثائقي تاريخي عن الثلاثينات، يُعرض بشكل معكوس، وهذه المرة نحن من هم أبطاله، أو بالأحرى الضحايا. انه فيلم وثائقي بيداغوجي لم يعلّمنا شيئاً. إنه شهادة مؤلمة على رعب الفاشية والشمولية الذي يبدو أننا قد نسيناه".
من بين أقوى لحظات الدورة المنتهية للتو - وهي لحظة أخرى لا تخلو من البُعد السياسي -، حضور المخرجة والمصوّرة والفنّانة البصرية الأميركية لورن غرينفيلد التي نالت تكريماً في هذه الدورة. في مسرح بافلوس زاناس، الواقع في المقر الرئيسي والدائم لإدارة المهرجان، أتيحت للجمهور فرصة حضور ورشة عمل قدّمتها غرينفيلد، ضيفة الشرف لهذا العام وعضوة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية. عملها لطالما عكس الجانب السلبي للاستهلاكية المفرطة، مقدمةً "تعليقاً لاذعاً على تدهور طبقة الأغنياء الجدد التائهة في أحضان الملذّات الزائلة". سلسلة أفلامها الوثائقية الجديدة، "الدراسات الاجتماعية"، تجربة اجتماعية مبتكرة تستكشف تأثير وسائل التواصل في الجيل الأول من "المواطنين الرقميين"، وهم الأشخاص الذين ولدوا في الألفية الجديدة. تحدّثت غرينفيلد خلال الورشة عن مشروعها الجديد، رابطةً اياه بأعمالها السابقة، وتناولت أيضاً مسيرتها وتطورها كفنّانة، وعرّجت على مسائل مثل الحلم الأميركي ودور وسائل التواصل في انتشار الرأسمالية، فتأثير المعايير الجديدة للسعادة والنجاح في الناس من مختلف الأعراق والأعمار والفئات الاجتماعية.
تتويجاً لعشرة أيام من بثّ الوعي السياسي في عقول المشاهدين، وانسجاماً مع ما يحدث في العالم منذ أكثر من سنة ونصف السنة، على وقع الحربين في غزة ولبنان، نال الفيلم الوثائقي "بئس هذا التعايش!" للمخرجة الأميركية من أصل لبناني أمبر فارس، الجائزة الكبرى، "الألكسندر الذهب"، وذلك من بين عشرة أفلام وثائقية يتجاوز طول الواحد منها السبعين دقيقة، كانت مرشّحة لها. الفيلم يقتفي خطى الفكاهية والناشطة السياسية الإسرائيلية نوام شوستر إلياسي، ابنة السابعة والثلاثين المولودة لأم إيرانية يهودية وأب يهودي من رومانيا. ما يميز هذه العائلة انها من أشد مناصري القضية الفلسطينية، ويمكن القول ان أفرادها الثلاثة أكثر "فلسطينيةً من الفلسطينيين أنفسهم". ولدت نوام وعاشت طفولتها في منطقة واحة السلام، قرية تقع في منتصف الطريق بين تل أبيب والقدس، أسّسها يهود وعرب بهدف القول ان الحياة المشتركة بسلام ووئام ممكنة. نشأت نوام في جو أسري جعلها تعي ما يعني التمييز، وعندما كبرت أصبحت مصدر إزعاج لإسرائيل بنقدها اللاذع لممارساتها.
يتناول العمل بسخرية وأسى، الدفاع المستميت لأفراد هذه العائلة عن قضية إنسانية لا يمكن التنازل عنها (إلى درجة صرف النظر أحياناً عن ممارسات "حماس" وماذا يعني العيش تحت وصاية سلطة دينية متطرفة يفرضها الأمر الواقع)، وذلك في دولة حيث حتى المعادون لنتنياهو يريدون الديموقراطية ولكن… فقط لأنفسهم، لا للفلسطينيين! يرينا الفيلم أيضاً معضلة الوقوف إلى جانب ”الأعداء“ بالنسبة إلى حامل الجنسية الإسرائيلية بعد أحداث السابع من أكتوبر، اذ ان بعض أكثر المؤمنين بالقضية انسحبوا منها نوعاً ما، وهذا ما جعل نوام تؤمن بأن التعايش لا يعني شيئاً اذا كان الطرفان غير متساويين، وفي هذا الجانب لا يمكن القول بأنها مخطئة. عن هذا كله وعن الكثير من الصراعات والمعضلات الأخلاقية الضائعة بين صوت الضمير وصمت الصامتين، ستتحدّث نوام عن قصّتها كيهودية تقف في صف العرب، طوال ساعة ونصف الساعة، باللغتين العبرية والعربية اللتين تتقنهما، وذلك بنمط كلامي عفوي فيه الكثير من التلقائية المحبّبة، ما جعل قلوب المشاهدين، أقلّه في تسالونيك، تهتف لها (رغم عدم الموافقة على كلّ التفاصيل المطروحة في الفيلم)، فصفّقوا لها كثيراً خلال حضورها إلى المهرجان مع أمها وأبيها. والأخير صرّح خلال النقاش الذي دار بعد العرض: "فلسطين حرة وليُسجَن نتنياهو!".
أخبار متعلقة :