في "الحياة ليست رواية": قارئ من بيروت أسير علاقة ثلاثية - ايجي سبورت

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
في "الحياة ليست رواية": قارئ من بيروت أسير علاقة ثلاثية - ايجي سبورت, اليوم الثلاثاء 15 يوليو 2025 10:17 صباحاً

ايجي سبورت - يعودُ الروائي اللبناني عبده وازن هذه السنة، بروايةٍ جديدة عنوانها: "الحياة ليست رواية". قد تبدو هذه العبارةُ مربكة لقرّاء الروايات، أولئك الذين يجدون في هذا الجنس الأدبي ملاذاً تخييلياً آمناً، وعالماً موازياً يخفّف عنهم قسوةَ الواقع. يأتي العنوانُ مثلَ صفعةٍ تذكّرهم بأنّ العالم في الخارج مختلف وهنالك مصائر من الصعب تعديلها وإعادة صوغها كما هي الحال في الأدب. لكن مع المضيّ في القراءة، يصبحُ بالإمكان تأمّل عتبة النصّ من زاويةٍ مغايرة، حيثُ يتحوّل العنوان إلى خطابٍ مباشر بين المؤلّف وبطله الذي جسّدَ شخصيةَ "قارئ". شابٌّ لبناني ثريّ اتخذ من القراءة مهنةً فعاش ليقرأ، ولا شيء غير ذلك، والقراءةُ بالنسبة إليه ليست هوايةً بل هوية، إذ يقول: "أعترفُ بأنّني لا أستطيعُ أن أكون من غير أن أقرأ" ويضيفُ لاحقاً: "القراءة هي طريقة حياة، طريقة وجود أيضاً" كما يفسّر أكثر بقوله: "لم أكن معنيّاً بأيّ مفهومٍ أو نظرية، إنّني قارئٌ بالغريزة".

يقدّمُ عبده وازن في هذا العمل تجربةً سردية مثيرة للاهتمام، تستعرضُ كيفَ تشكّل عادة القراءة وعي الإنسان وذائقته، فهو يروي من خلال الشخصية الرئيسية حكاية قارئ شغوفٍ بالروايات، يحفظ أسماء شخصياتها ويدوّن تفاصيل أحداثها، قارئ ترتبط كل ذكرياته الشخصية بذاكرته الروائية، ويقارنُ معارفه بشخصياتٍ متخيّلة ويُسقطُ خبرته القرائية على علاقاته الإنسانية. إضافةً إلى ذلك، تتناولُ الرواية أعمالاً روائية شهيرة في حوارات شخصياتها، لذا قد يكونُ هذا النصّ مثيراً وجذاباً للقراء لما يحملهُ من قيمةٍ نقدية ومعرفية عالية، إذ يجدُ قارئ هذه الرواية نفسه يقرأ عن قارئ آخر، فتتوطد بينهما علاقة حميمة، يا لهذه المتاهة! ما يمكن قوله هو أنّ هذا النص هو رواية عن رواية أخرى إن لم نقل روايات، وقراءة عن قراءات وعلاقة قارئ بقارئ آخر.

رواية "النص الواحد"
كتبَ عبده وازن نصاً طويلاً غير مقسّمٍ إلى فصول، يجري بنفسٍ واحد، وبسردية متجانسة، ومتّصلة تبدو كما لو أنّها كُتبت في جلسةٍ واحدة. لا يظهر في السرد أيّ تفاوت أو تذبذب قد يوحي بانقطاعٍ عن الكتابة في مواضع معيّنة، ما يمنح النص سلاسة لافتة في تدفّق الأحداث. يسردُ الراوي الحكايةَ بضمير المتكلم وهو الأقوى في السرد لأنّه يوهم بالحقيقة حتى إن لم تكن كذلك. يكتب عبده وازن النصّ السهل الممتنع، نصاً يبدو للوهلة الأولى بسيطاً وكلاسيكياً في تصاعد الأحداث من الطفولة إلى الزمن الحاضر وبراوٍ واحد ولكن مع مواصلة القراءة تتجلى قوة الجملة وعمق الفكرة إلى جانب علاقةٍ ثلاثية شديدة التعقيد.

 

غلاف رواية “الحياة ليست رواية“. (دار المتوسط)

 

بذكاء روائي، ينسج وازن حبكة تقوم على رواية داخل رواية، مستخدماً فيها شيئاً من الميتاسرد كما فعل سابقاً في روايته "البيت الأزرق"، حيث يكتبُ نصّه من خلال شخصية قارئٍ يجرّب كتابة روايته الأولى داخل هذه الرواية... وقد اعتمد وازن في البداية تقنية الاستباق الزمني، إذ أفصح عن ذروة الأحداث في الصفحات الأولى، حين أشار إلى رحيل جوسلين وموت صديقه المقرّب جوزيف، وكونه طرفاً في هذه العلاقة الثلاثية. ثم عاد إلى الماضي، ليروي طفولة القارئ وظروفه وتعرّفه إلى جوسلين وصداقته القوية بجوزيف.  

بيروت مسرحاً للحياة
في زمن السلم أو الحرب، ترسم "الحياة ليست رواية" صورةً لبيروت كمدينة عريقة، احتضنت الأدب والفنّ بمكتباتها ومقاهيها ومسارحها، وجمعت الفنّانين من كل صوب. حرصَ عبده وازن على نقل الصورة من الداخل، بكل أبعادها العمرانية والتاريخية، وتمكّن من اقتناص روح المدينة ومشاركتها مع القارئ وهو يتنقّل به بين الأشرفية والجمّيزة وساحة الشهداء بتمثالها المثقوب بالرصاص، كأنّ التمثال نفسه يحملُ ندوباً تذكّر بما حدثَ في الماضي بين أبناء الشعب الواحد. يتأمّلُ عبده وازن، الواقع السياسي لبلده بموضوعية من دون انحيازٍ إلى أيّ جهة، معترفاً بألسنة شخصياته بأنّ الحرب كانت مسؤولية الجميع، بلا استثناء، وبأنّ الأبرياء وحدهم كانوا ضحاياها. يقولُ الراوي: "ما أوحشَ اللبنانيين الطائفيين كلّهم".

أمّا جوسلين القادمة من فرنسا لتتعرّف إلى بلد والدها المقتول في الحرب الأهلية، فتتأمّلُ لبنان مجروحةً، من دون افتتانٍ أو حنين، لا تزوره كسائحة ولا تهتمّ بالمناظر والقلاع والأودية، بل تعبّرُ بصدق عن علاقتها المتوتّرة بالبلد. يقول صديقها إنّها لم تستطع أن تحبّ لبنان ولا أن تشعر بالانتماء إليه والاعتزاز به بعدما قضت طفولتها وهي تشاهد مشاهد القتل والقصف والتهجير، إذ تصارحه في أحد الحوارات: "كيف يمكنني أن أنتمي إلى بلدٍ تبلغ فيه الكراهية الأهلية هذا المبلغ، بل الطائفية التي تبدو أبشع من العنصرية". 

علاقة ثلاثية تلهمُ القارئ الكتابة
يجد الراوي نفسهُ متورطاً في علاقةٍ ثلاثية ألهمته كتابة روايته الأولى، كمغامرةٍ لم يعلم إلى أين ستقوده، ولا كيف ستنتهي. قرّر القارئ أن يروي قصة ثلاثة أبطالٍ جمعتهم الصداقة والحبّ، قائلاً عن هذه المغامرة: "كتبتها من أجلنا نحن الثلاثة، كتبتها لهما ولكن كي لا يقرآها". هذه العلاقة الثلاثية المريبة التي جمعتهُ بجوسلين وجوزيف، ليست فقط أكثر ما يجذب في الرواية بل جوهر موضوعها ومحرّك أحداثها. فالقارئ أحبّ جوسلين من طرفٍ واحد لكنّ جوسلين أحبّت أعزّ صديقٍ لديه، حبّاً خالصاً وجنونياً بينما بادلها جوزيف الحبّ ولكن أقلّ ممّا أحبّته. 

لم يكن الراوي مجرد شاهدٍ محايد على علاقة حبٍّ حرمَ منها وتمنى لو كان بطلها، ظلّ ممزّقاً بين العقل والعاطفة، محافظاً على محبّته لكليهما، ومتألماً بصمت، لم يستطع كبح مشاعره لا عن حبّ جوسلين ولا عن غيرته من جوزيف، يقول مثلاً في ص73: "لم يكن يتهيأ لي أنّني سأمسي شخصاً مازوشياً وشخصاً يتألم ويسرّ بألمه، شخصاً يتمتّع بجروحه، شخصاً مذلولاً ويحب أن يكون مذلولاً. قلبت جوسلين حياتي، جعلتني أعيش أجمل حب وأقسى حب، أكاد أجنّ ولكنني سأتحمّل". 

 تتأزّمُ الأحداث حين يتعرّض جوزيف لحادثٍ يدخل على إثره في غيبوبةٍ طويلة، عالقاً بين الحياة والموت. لا يكتفي الصديقان برعايته والسهر إلى جانبه، بل يواصلان التحدّث إليه وإشراكه في النقاشات بينهما، كما لو كان مُنصتاً وواعياً لحضورهما. يصفُ القارئ هذه المرحلة بقوله: "هذه غيبوبتي أيضاً، غيبوبتنا نحن الثلاثة: شعرتُ أنّني أنا الغائب عن الوعي وخفت، إذا لم يستيقظ جوزيف فلن أستيقظ أنا، أخجل أن أرى جوسلين من دونه".

يعاني القارئ من مشاعر متناقضة بين الذنب والغيرة، ويخشى أن يكون أصابَ صديقه بالسوء بسبب الحسد لكنّه يمضي في غيرته منه حتى وهو في غيبوبته، يقرّ بما لا يقالُ علناً وما لا يراود الإنسان من أفكار إلّا بينه وبين نفسه. 
 في النهاية يُدرك الراوي أنّ هذه العلاقة الثلاثية لا يمكن أن تعاش إلّا بوجودهم ثلاثتهم معاً، ولا يمكنها أن تستمّر بغياب طرفٍ عنها، فما إن اقترب جوزيف من الموت، حتى اختلّت الصداقة وراحت تضعف وتتلاشى بينه وبين جوسلين. يقول القارئ: "حتى حبه لجوسلين هو حبي لها، وحب جوسلين لجوزيف هو حبها لي، أنا أكمّل جوزيف وجوزيف يكمّلني، كأنّه الوجه الشهوي لعلاقتنا وكنتُ أنا الوجه الروحي. حتى نقصان علاقتي بجوسلين كان يكتمل عبر جوزيف". 

هذا التعقيدُ العاطفي الشديد في العلاقة التي جمعت بين ثلاثة مثقفين لبنانيين، يستحق مقاربة تحليلية نفسية لشخصياتها، فقد قدّم عبده وازن تجربة فارقة وإضافةً مهمّة للأدب اللبناني المعاصر من خلال هذا العمل.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق