نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
طرابلس الشام اللبنانية: سمكة حارّة وحُرّة - ايجي سبورت, اليوم الجمعة 18 يوليو 2025 05:27 صباحاً
ايجي سبورت - كان يكفي تصريح إسرائيلي واحد، بل أقل من تصريح، هو مجرد إشارة، لكي يثير نقاشا تاريخيا وسياسياً حول هوية مدينة طرابلس في شمال لبنان، وتعود كل الهواجس والعِقَد الكيانية لتظهر كما لو أننا نتجادل منذ مئة عام ونيّف، عام 1920، فينبري البعض بعد تغريدة توم برّاك، ليحوّل السجال ليس فقط حول المدينة الرائعة والعريقة طرابلس، بل حول كل الكيان اللبناني وما إذا كان جزءاً من بلاد الشام أو لا!!
برّاك اللبناني الزحليّ الأميركي يتسلّى بنا. فيحرِّك ردود أفعال سطحية في النفي أو التأكيد. كأن إدارة ترامب باتت متخصِّصة بتحريك هواجس تغيير الخرائط كما فعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الحديث عن ضم كندا أو انتزاع غرينلاند من مملكة الدانمارك. أو كما صَدَمَنا بوقاحة اقتراح نقل أهل غزة إلى مصر.
لا أريد أن أمزح فأقول إنني متمسك بالاحتفاظ بتبعية طرابلس - الشام للدولة اللبنانية، لأن فيها حلويات "زنود الست" و"حلاوة الجبن"، ووجبة السمكة الحَرّة (الحارّة) التي يتفوّق فيها الطرابلسيون حتى على جيرانهم أهل طرطوس وجزيرتهم أرواد ذات اللهجة الطرابلسية.
لنذهب إلى الجدية، ولكن ليس في التحليل السياسي الرائج. فاللعب الدائر الآن بالدم في قطاع غزة والضفة الغربية وسوريا الجنوبية يبدو كما لو أننا عدنا لنشهد ما حدث عام 1948، وكما لو أن اليمين العنصري الإسرائيلي اقتنع بنظرية المؤرخ اليميني الأميركي دانيال بايبس قبل نحو ثلاثة أعوام، والتي قال فيها إن الإسرائيليين ما زالوا يدفعون موتى وقتلى بسبب ميول حكوماتهم "التسووية"، وهم لن يهنأوا كما لن يهنأ الفلسطينيون(!) ما لم يحققوا نصراً كاملا على الفلسطينيين. وبايبس نشر كتابه الجديد حامل هذه النظرية بعدما جاء إلى إسرائيل عام 2023 قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر بأشهر والتقى نخبة اليمين والوسط الإسرائيلية وصرّح بنظريته تلك معلناً أنه جاء ليكتب عنها كتابه الجديد الذي صدر لاحقاً خلال الحرب.
نعود إلى لبنان. أنا أدعو هنا إلى ألا ينشغل اللبنانيون، الإعلام وبعض المؤرخين في دحض فكرة الهوية التاريخية للكيان اللبناني، شامية أو غير شامية، لأن ذلك يعني السقوط في سطحية وتفاهة وآُمّية لا تليق بالمجتمع اللبناني، ولأنني أفترض أنه نقاش لم يصبح من الماضي فقط وجزءا من سذاجة زمن سابق يربط الجغرافيا والسيادة بالهوية التاريخية والسياسية.
لا بد من الإعجاب بكيفية مقاربة النخبة المصرية الجديدة في الاعتراف من دون أي مشكلة سياسية بالهوية الفرعونيّة وبالهوية المصرية السيادية وبالثقافة العربية. كنتُ أعتقد ولا أزال أن جزءاً مهماً من النخب اللبنانية بات يتمسّك بهويته السيادية اللبنانية مهما كان الإرث الفينيقي أو المسيحي أو الإسلامي أو الجغرافي للمنطقة.
كان منح الصلح حتى بما يطال نسبيا ريادة ابن عم والده رياض الصلح في إنجاز الميثاق اللبناني عام 1943 … كان يقول إن صانع الاستقلال الأول على جهة المسلمين اللبنانيين هو عبد الحميد كرامي زعيم طرابلس عندما تخلّى عن الوحدة السورية وانضمّ إلى تيار القبول باستقلال لبنان بقبول انضمام طرابلس إلى هذا الاستقلال.
صرنا في عصر ما بعد الحداثة، وأهم ما جاءت به مدرسة ما بعد الحداثة هو تعدد الهويات التي يحملها المرء دفعة واحدة، وانفصال فكرة الهوية الوطنية والسياسية عن إرث الانتماء التاريخي ذي البعد الهويّاتي الواحد، بل إن المفكر الألماني الأوروبي هابرماس استحدث عن حق فكرة "الوطنية الدستورية". وطنيتك هي سيادة الدولة التي تتعاقد وتعيش في ظل دستورها. وما أحوجنا إليها بعيداً من أمراء تنظيم "القاعدة" و"داعش" وملالي إيران و"إخوان" مصر.
طرابلس لبنانية في ظل وطنيتها الدستورية الراسخة والقوية. لقد كتبتُ مرةً أنه لو عاد جدي المؤرخ الشيخ علي الزين الذي كان من التيار المؤيد للوحدة السورية في جبل عامل في عشرينيات القرن الماضي، لو عاد إلى الحياة، لقلتُ له عملا بما عززه في ممارسة الوعي النقدي عندي: كنتَ مخطئًا يا مولانا أنتَ وجيلك لأنكما عارضتما كيان "لبنان الكبير" ولم تدرك نخبة ذلك الجيل أهميته وخصوصيته الثقافية والتعليمية والحياتية التي نَعِمَت بها واستفادت منها الأجيال اللاحقة رغم لعنات أقدار الجيوبوليتيك.
وكم كانت محقةً المديرة التاريخية المؤسِّسة لإحدى أرقى مدارس لبنان "الكولاج بروتستانت" ومديرتها لمدة طويلة جدا (30 سنة) مسز لويز ڤيغمان حين كانت وهي العضو النشط في جمعية لوثرية ذات طابع ديني مسيحي، إذ تقول: "أفضِّل أن أصنع وعيا لا تغييرا عقائديا" je préfère faire des consciences que des conversions (نقلاً عن كتاب كريستين سيمانكيويتز وشربل باتور "الاستثناء التربوي اللبناني" (L’exception Educative Libanaise 2023).
الحس الحضاري الذي ينقله الكاتبان عن مسز ڤيغمان ينم عن وعي سياسي لمْ ولا تتمتّع به الأصوليتان السنية والشيعية في فهم أهمية التعددية التي تنطوي عليها تجربة "لبنان الكبير".
كانت لويز فيغمان وأمثالها ومثيلاتها ديموقراطية بأوسع من مجرد التعليم. بل ديموقراطية رائدة في الحقل الأخطر والأهم لتكوين الدول، وهو قطعاً التعليم.
عاشت طرابلس الشام لبنانيةً إلى الأبد.
0 تعليق