لماذا الفاشلون يُهينُون النثر؟ (2 من 2) - ايجي سبورت

0 تعليق ارسل طباعة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
لماذا الفاشلون يُهينُون النثر؟ (2 من 2) - ايجي سبورت, اليوم السبت 22 مارس 2025 08:11 مساءً

ايجي سبورت - الذين خرجوا من الكلاسيكية، أَو يقَصِّرون عنها هاربين إِلى النثْر، يبرِّرون تَفَلُّتَهم من قواعدها الصارمة وأُصولها العارمة بتسمياتٍ لنثْرهم يستعيرونها من إِقليم الشعر: "قصيدة نثْر"، "شعر حديث"، "شعر منثور"، ... كأَنهم، لتكريس نثْرهم، يريدون رفعه إِلى مستوى الشعر. وهذا خطأٌ فادح فاضح، لأَن النثْر فن عظيم في ذاته بقدْرِما الشعر فن عظيم في ذاته.

في الجزء الأَول من هذا المقال، عالجتُ مقاربة الشعر بالاستسهال في كتابة نثر يدعيه البعض شعرًا وهو أَحيانًا أَقلُّ من نثر ضعيف، وأَثرتُ موضوع الإِيقاع الداخلي دُرجةً يتلطَّى خلفها القاصرون كي يبرِّروا هربهم من إِيقاع البُحور والأَوزان.

في هذه الحلقة تتمةُ الحديث عن تقصير الكثيرين في كتابة الشعر، وادِّعاء كتابتهم "قصيدة نثر" أَو "الشعر المنثور" أَو "الشعر الحديث"، وجميعُها تَعدٍّ على الشعر مع أَنَّ في بعضها نثْرًا جميلًا. فلماذا استدانةُ تسميات من إِقليم الشعر لرفع قيمة ذاك النثر الجميل؟ 

لا "ماذا" بل "كيف"
في السائد أَن الشعر معنى ومبنى ووزن. لا: المعنى موجود أَنَّى كان، والمبنى متوافر لأَيٍّ كان، والوزن مطروح في كل زمان. الأَصل: ليس "ماذا نكتب" بل"كيف نكتب ماذا". وهو ما يميِّز قصيدةً باردة عن أُخرى إِبداعيّة.

 

 

المعيار؟ تركيبُ البيت فالقصيدة. الأَهم؟ أَن تكون في كل بيت "لمعةُ" تركيبٍ شعرية. وهذا نادر حتى بين كبار الشعراء، لأَن معظمهم يُراكم أَبياته متتاليةً حتى يَبْلغ "بيت القصيد"، فيما الشاعرُ الشاعر هو من يَجْهد إِلى جعل كلٍّ من أَبياته "بيت القصيد".

ما أَعنيه عن هذا "النحت" الجمالي الصعب في "فنّ" الشعر، أَعني مثيله تمامًا في الفن الصعبِ الآخر الذي هو النثر. إِذا مقطوعةُ الأَوَّل هي القصيدة، فمقطوعةُ الأَخير هي "النَثيرة". وإِذا الشعر هو الكلام المغاير (تركيبًا) عن الكلام العادي (رصفًا سرديًّا)، فالنثرُ كذلك - وتمامًا وتَسَاويًا - هو الآخَر نسْجُ الكلام صقلًا وتنصيعًا بما لا يقلّ "نحتًا" عن نسْج الشعر.

تَعادُلُ الإِبداع بين القصيدة والنَثيرة
بعد كتاباتي المتعددة عن القصيدة أَكثرَ مما عن النثيرة، أَكتبُ اليوم عن النثر، الحبيبِ إِليَّ كما الشعر، لإِيماني بأَن كلَيهما فنٌّ عظيمٌ، لا تَفَوُّق لأَحدهما على الآخَر، إِلَّا بإِبداعِ متَمَكِّنين ينصِّعونه، فيَغنى أَدبُنا بقصائد ونثائر تُشكِّل تراثنا العربي قديمَه والمعاصر.

 

 

كما الشعر مصابٌ بالنظْم، يتلبَّسُه الناظم فيَفشل هو لا الشعر، كذا النثر مُصاب بالاستسهال لتَوَهُّم البعض أَنه منسرحٌ سهلٌ دون نُظُمٍ وقواعدَ صارمة تضبُط كتابته. سوى أَن للنثر أُصولًا، مَن يجهلُها يبقى نصُّه هشًّا يتفتَّت مع الزمن، كالرسَّام يؤَسس قماشته البيضاء بزيت شفَّاف يحمي طويلًا خطوطَه وأَلوانَه فلا تتشقَّق مع السنوات، بينما اللوحة التي بدون زيت تأْسيسيّ تستلزم لاحقًا عمليات ترميم.

طبقات النثْر  
للنثر طبقات عدَّة، لكنَّ مُقاربيها المتمكنين قلَّة.
فما هذه الطبقات؟
منها النثْر العاديُّ المرسَل: يستعمله كاتبو الرسائل والنصوص العادية والعلْمية والصحافية، فيكون مجرَّد وسيلة لإِيصال المضمون بدون جهدٍ لتحسين هذه الوسيلة، لأَن الهدف ما يُكتَب لا كيف يُكتَب.

ومنها النثرُ الأَدبي: يتوسَّله الروائيون والمسرحيون وكُتَّاب المقالات الأَدبية والدراسات النقدية والنصوص الوصفية. يُوصِل كاتبوها مضمونها أَعلى قيمةً و"شغلًا" من الفئة السابقة. يتمايز به الأَديب ببعض التماعاتٍ في تَمَكُّنه من اللغة، فيرتفع نصه إِلى مستوى الأَدب. وهنا كذلك تتجه الأَهمية إِلى "ماذا" يُكتَب أَكثر مما" كيف" يُكتَب.

 

 

ومنه الأَرفع قيمةً ومستوًى وإِبداعًا: النثر الفني أَو الجمالي، وهو تلقائيًّا يتضمّن النثر الأَدبي، إِنما يتأَنَّى به كاتبه ويتأَنق (دون حذلقات لغوية شكلانية لفظية عصيَّة) فيتساوى فيه الحرص على المضمون والشكل معًا. عندها يَخرج النص لامعًا ناصعًا ساطعًا بارعًا لا غبارَ لفظيًّا فيه، ولا تكرارَ عبارات وكلمات مأْلوفة مستهلكة. هكذا يكون النص قطعةً رخاميةً مصقولةً مجلُوَّةً بجمال المعنى وجماليا الأُسلوب. هنا تصبح اللغة غايةً في ذاتها لا مجرد وسيلة، فتتجلَّى بأَبهى مقاماتها مقولةُ: ليس المهم "ما" نكتب، بل "كيف" نكتب ماذا. وهذا أَرفع أَنواع النثر: دُربةٌ لا تُعطى إِلَّا للمتمكِّنين من اللغة بقدْر تَمَكُّنهم من سكب أَفكارهم في قوالب لغوية ماهرة تجعل النص غاية في الإِبداع. وفي هذا النثر ينحت الكاتب بَصْمَتَه، ولو من دون توقيعه، فيُعرَف أُسلوبه بــ"تركيب مشغول" يميِّزه عن سواه: كيف يُلاعب الكلمات في تعابيره وعباراته، تقديمًا أَو تأْخيرًا أَو اشتقاقات (من قلب اللغة لا بتطويعها قسرًا)، فتصبح اللغة على هُدْب قلمه مهارةً جمالية تَغنى بها الذائقة الفنية.

مع ذلك، مع كل ذلك، لا يحاولنَّ مُنَظِّرٌ أَن يَسِم هذا النثر الجمالي العالي بالنثر الشعري، لأَنه يُهين النثر ويُهين الشعر. فالنثر فنٌّ رائع مستقلّ بذاته، ولا يُنسَب إِلى سواه من الفُنون، أَيًّا يكُنْ أَخَّاذًا هذا السوى.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق