نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"مَدَد مَدَد"... الموروث الشعبي وأسرار الحروف في معرض يسري المملوك - ايجي سبورت, اليوم الثلاثاء 25 مارس 2025 11:38 مساءً
ايجي سبورت - يفتح الفن البصري الحديث في مصر نوافذه على كل الاتجاهات والتيارات، المحلية والوافدة، مستحضراً في خصوصيته التعبيرية أطياف المجتمع المتنوع في تراكيبه، الخصيب في عاداته وتقاليده، ومتتبّعاً تطورات نسيجه الحضاري عبر التاريخ.
وتتعاطى المعالجات التشكيلية المتفوقة برهافة وحساسية مع مقوّمات الذاكرة الجمعية، والنقوش المحفورة في الوجدان، في الوقت ذاته التي تلتفت فيه بعيونها اللاقطة الواعية إلى حركة الواقع المعاش، ونبضه الحيوي المتدفق، سعياً إلى رسم دقيق وشامل لملامح الهوية، وتفاصيل الشخصية المصرية.
وباذلُ نفسهِ، في حبّ من يهواهُ، ليس بمُسرفِ
في هذا السياق التجديدي، الناهل من جذور البيئة بإحداثياتها المصرية والعربية والإسلامية، تأتي تجربة التشكيلي المصري البارز يسري المملوك (76 عاماً) في معرضه الفني "مدد مدد" في غاليري "خان المغربي" في حي الزمالك في القاهرة حتى التاسع والعشرين من آذار/ مارس الجاري.
طقوس روحانية واجتماعية
لا يأتي توقيت إطلاق معرض المملوك اعتباطاً، إذ يبدو اختيار عنوانه وانتقاء لوحاته منسجماً مع الطقوس النفسية والروحانية لشهر رمضان، وتجلياته الدينية، واحتفالاته ومظاهره الاجتماعية في القاهرة والمحافظات المصرية المختلفة.
يتقصى الفنان هذه الأجواء والمظاهر والمراسم الدالة كلها، في البيوت والشوارع والأزقة والميادين وأفنية المساجد والساحات، الحافلة بالزينات والفوانيس والأضواء والمعالم الرمضانية المتعددة، ناسجاً موتيفاته الشعبية والفلكلورية التي تستلهم الموروث الثري، وتطل على خريطة الحاضر الآني.

تضيقُ بنا الدنيا إذا غبتُمُ عنا
تأتي معايناته ولقطاته كلها بصيغة أسلوبية معاصرة، وروح ابتكارية، وتقنيات عالية متنوعة، الأمر الذي يعكس قدرات الفنان وطاقاته الخلاقة المنفلتة، وخبراته المتراكمة، وثقافته الفنية والمعرفية والأكاديمية الواسعة.
يواصل المملوك في أعماله الجديدة حفر مساره الخاص وتأصيل رؤيته الفنية كصاحب مشروع واضح المعالم، يُصالح فيه بين أسرار الحروف العربية، وجماليات المشهد المرئي، في توليفات مرنة تتسلل إلى أعماق التكوين، وتنفذ إلى جوهر اللقطة الكامن خلف السطح. وفق هذه الرؤية، لا يبدو فرقاً أو حاجزاً بين الحرف المجرد والصورة المكتملة. فالحروف في ذاتها، منفصلة أو مشتبكة مع بعضها بعضاً، هي تكوينات بصرية جمالية لها إفضاءاتها وإيحاءاتها ولغتها السحرية، التي يستنطقها الفنان على مسطح اللوحة.

الرقص الصوفي
وهكذا، يمكن للحروف، بوصفها صوراً وتشكيلات، أن تبوح بأسرارها الكامنة، وتأويلاتها المضمرة والخفية والمسكوت عنها، وذلك بغض النظر عن المعاني القاموسية المباشرة والقريبة التي قد تحملها الكلمات والعبارات التي تتألف من هذه الحروف حال اتصالها على النحو الاعتيادي المألوف.
مشاهد وفلسفات
تحت العنوان العريض للمعرض "مدد مدد"، يشتغل الفنان على سائر القيم التصوفية والروحانية، ليس فقط باعتبارها معطيات دينية أو تمظهرات رمضانية، ولكن باعتبار أن الحقيقة الإيمانية والممارسات التعبدية والابتهالية وغيرها هي من لوازم الخصوصية الشعبية الراسخة، ومن مكوّنات الشخصية المصرية التي تتجسد في سلوكياتها اليومية.
يصوّر الفنان حالات الطمأنينة النفسية والوهج النوراني في الوجوه والملامح والقسمات، الناجمة عن الرضا والقناعة والخشوع والتضرع. ويستقطر فلسفات الفرق الصوفية في أدائها الحركات الدائرية مثل المولوية والتنورة، إذ تقترب القلوب والأرواح من خالقها في مراحل السموّ والإشراق.

التشكيلي المصري يسري المملوك
يستحضر الفنان بعذوبة بالغة حلقات الذكر ورقصات الدراويش واندماجهم في مشاعر فياضة ترتقي بهم إلى مراتب الصفاء الروحي والبحث عن الكمال والاقتراب من القبس الإلهي، متخلصين من الانشغالات العالقة والأوجاع الدنيوية، ومحلّقين في فضاءات الوجد، بعيداً عن العالم المادي الزائل المبتذل.
سحر الخطوط
تحل الحروف العربية قاسماً مشتركاً في كل لوحات المعرض، وذلك بتضفيرها في معظم الأحوال مع عناصر ومفردات أخرى في المنظومة البصرية المتجانسة، القائمة على السلاسة الإيقاعية، والدينامية الانسيابية.
يفجّر الفنان الشحنات والحمولات الدلالية التي تنطوي عليها الحروف، من منظور جمالي في الأساس قبل المنظور التعبيري. ويعمل على تغيير أشكال الحروف المنفردة، أو المتصلة في كلمة واحدة مثل لفظ الجلالة "الله"، أو التي تكوّن جملة أو آية قرآنية أو حكمة مأثورة أو بيتاً شعريّاً شهيراً، كقول ابن الفارض "ما لي سوى روحي، وباذلُ نفسهِ، في حبّ من يهواهُ، ليس بمُسرفِ".

الخط والتشكيل والأبعاد الروحية
ويضع الفنان هذه الحروف عادة ضمن حركات ذاتية تخلخل سكونها، أو في سياق حركات خارجية، كسحابة متحركة في الفضاء مثلاً أو موجة في البحر أو درويش راقص في حلقة الذكر أو كوكب يدور حول الشمس.
ويهدف الفنان بتلك الحركات الذاتية والخارجية إلى الحد من كتلة هذه الحروف التي يصوّرها، وإكسابها رونقاً إضافيّاً مستقلّاً، ومنحها أبعاداً نفسية وطقسية وموسيقية، لتخاطب الحواس المختلفة لدى المتلقي، ولا تقف عند حد استلاب حاسة الإبصار وحدها.
ينوّع الفنان يسري المملوك تشكيلات حروفه مبتكراً ثيمات وأشكالاً جديدة لخط الطغراء وخط الإجازة والخط السنبلي وغيرها، مستفيداً أيضاً من الزخارف الإسلامية النباتية والمنمنمات والفيسفساء والخطوط العربية التراثية، ومنفتحاً في الوقت نفسه على المدرسة المصرية الفرعونية برموزها وأيقوناتها من نباتات وفراشات وطيور وغيرها.
وخط الطغراء، الذي يطوّره الفنان المملوك في لوحاته، هو مزيج من الخطين: الديواني والإجازة. ويتسم الخط الديواني باستدارة حروفه وكثرة تداخلاتها، في حين يستلهم خط الإجازة جماليات خطين عربيين أساسيين معاً، هما النسخ والثلث. أما الخط السنبلي، فهو مشتق من الخط الديواني مع بعض الانزياحات التصويرية.
وهذه الخطوط كلها، إلى جانب وظائفها التوصيلية لنقل الأفكار وتمرير الرسائل والمعاني والأحاسيس، هي خطوط فنية، ذات قيم جمالية صافية، يستخلصها التشكيلي يسري المملوك ببراعة وعفوية في لوحات معرضه المتميز.
0 تعليق