أصيلة محمد بن عيسى: العمران بالثقافة - ايجي سبورت

0 تعليق ارسل طباعة

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أصيلة محمد بن عيسى: العمران بالثقافة - ايجي سبورت, اليوم الأحد 23 مارس 2025 07:02 صباحاً

ايجي سبورت - رحل المثقف والديبلوماسي والوزير محمد بن عيسى (1937-2025)، تاركاً إرثاً ثقافياً نوعياً، يتمثل في "موسم أصيلة". كانت تجربةً ثريةً، تتمثل في عمران المدن بالثقافة، ودرساً مهماً عطفت به السياسة لصالح الثقافة وليس العكس.

 

بدأ موسم أصيلة (1978)، وظل يواصل مواسمه، عاماً تلو عام. رحلت أجيال، ووُلدت أجيال على أرض أصيلة، وغابت وجوه وحضرت وجوه مِن رواده، وأصيلة الموسم يُقدم الجديد، فنوناً وآداباً وأفكاراً، وندوات حوار، لا تعكّر السياسة صفوها، على الرغم من أنها في جوهر السياسة. خمسة وأربعون عاماً ومحمد بن عيسى يقف مخاطباً جمهور موسم أصيلة، مِن بلاده المغرب ومِن خارجها، ثم كلّ يدلو بدلوه، على مدى عشرين يوماً، أو يزيد.

كانت أصيلة مدينة بمواصفات قرية. منعزلة في أقصى شمال المغرب، وجنوب طنجة، والأخيرة مدينة الرحّالة، كابن بطوطة (تـ: 779هـ)، وما زال ضريحه قائماً بين أزقتها الضيّقة، ويُظنّ أنَّ اسمه وضع بديلاً لدفين المكان، فاسمه يجذب الباحثين والفضوليين، فصار يُزار على أنه ضريح صاحب الرحلة الشهيرة، لكن مِن دون طقوس.

وهكذا يُدسّ الخيال أخباراً وروايات، فهذا أبو الحسن المسعودي (تـ: 346هـ) يروي خبراً عن قبر لحام بن نوح، منقور في صخور جبل أصيلة، لكنَّ الأصيليين لم يسمعوا به، ولم يشيّدوه ضريحاً، يدرّ عليهم رزقاً، كما يعمل سدنة الأضرحة، حتَى وإن كانت مجرد أبنيةٍ وقُببٍ خالية مِن رفات؛ أو لأنَّ حامَ أخطأ بحقّ أبيه، النبي منقذ البشريّة مِن الغرق، فلا يستحق الضريح!

كتب المسعودي في "أخبار الزمان" الآتي: "ولما مات حام، خرج بعضهم من ذلك الموضع، فأقاموا بمكان البربر، وكان عمر حامَ أربعمئة سنة وإحدى وأربعين سنة، ولما مات دفنه بنوه في صخرة منقوبة في جبل أصيلا". سلمتُ هذه الرواية لرئيس بلدية أصيلة بن عيسى، فسُرّ بها وحفظها في مكتبه.

كانت أصيلة قلعةً وأزقةً، صخورها تدل على قِدمها، فورد اسمها في أمهات كتب البلدانيين، وكان لقب "الأصيلي" معروفاً، لحق بأسماء عدد من العلماء والفقهاء، ومِن عهود مختلفة. بيد أنَّ هذا التاريخ لم يجعل مِن المكان حاضرةً، فالمدينة ظلت منزوية على ضفة الأطلسي، لم يبق منها غير منازل متهالكة، يقطنها صيادون، يعيشون على خيرات المحيط، تتوسطها مدرسة، تعلم فيها بن عيسى، وإذا باسم "أصيلة" يرن بالعالم، كمدينة ثقافة، حيطان منازلها وجدران أسوارها أصبحت معارض فنيّة، والسائحون لا ينقطعون عنها، بل غرباء غربيون اختاروها منزلاً.

قيل لبن عيسى، وهو يهمّ بتأسيس موسم ثقافيّ بمسقط رأسه، أصيلة التي لا يريد الرحيل عنها، فقيل له: لا تستطيع عمل شيء إذا لم تلج السياسة؛ فما قوتك كي تفرض على إدارة المدينة موسماً ثقافيّاً سنوياً؟ ومِن يومها دخل لعبة السياسة، ورشح في الانتخابات، حتى أصبح رئيس بلدية المدينة، فخطط وبنى، وبطبيعة الحال، إن لم يجد أُزراً مِن العاصمة لم يتمكن، وظل رئيساً للبلدية، بسطوة ما فعله لهذه المدينة، مِن عُمران وتخطيط جديد. كان السِّر في نجاحه أنه صاحب هدف وغاية نبيلين.

تصلح تجربة رئيس بلدية أصيلة نموذجاً، أو درساً في التعليم، وهو استغلال السياسة للثقافة والعمران. صارت أصيلة بوابة يُطل منها على العالم، غرباً وشرقاً، ومنها استحق رئيس بلديتها أن يكون وزيراً للثقافة، فوزارة الخارجية، والسفارة في أكثر مِن دولة، لكنَّ المناصب لم تبعده عن أصيلة، ولم تعرقل موسمها الثقافيّ.

استحق عبر نجاحه في عمران مدينته واستدامة موسمها الثقافيّ، وبحيويته في كلِّ مجال يحل به، تكريم بلاده له وعواصم العالم، فقد حصل على وسام العرش المغربي من درجة ضابط، ثم وسام العرش من درجة ضابط كبير 2008، ولعمران أصيلة حاز جائزة الآغا خان العالميّة في العمارة، عن مشروع التنمية الحضرية لأصيلة، فميدالية بيرو البلدية، ودكتوراه فخرية في القانون من جامعة مينيسوتا، وذلك لإنجازاته في سلك الخدمة العام، كما منح جائزة الشيخ زايد للكتاب مِن أبو ظبي، كأفضل شخصية ثقافية في دورتها الثانية، وارتباطاً بموسم، أو منتدى، أصيلة السنويّ مُنح درع "الألكسو".

أقول بلا مبالغة، ولا تأثير صداقة وعاطفة، إن محمّد بن عيسى كان شخصية استثنائيّة، في أفكاره وأفعاله وتواضعه الجمّ، يصلح أن يكون نموذجاً للمثقف الذي طوّع السياسة والمناصب لأجل العمران والثقافة، والقريبون منه يعرفون عظمة العوائق والعثرات التي كانت توضع لإحباطه؛ ففي ختام الموسم الأربعين، أشار إلى نهاية "أصيلة" الموسم، فصار عاجزاً عن الاستدامة، وكانت رسالة ذكيّة لأصحاب الشأن، ومَن يهمّهم الأمر، فالموسم يعني المغرب وطنياً، والثقافة دولياً، وبالفعل نجح، واستمرت المواسم.

ماذا عن الموسم أو المنتدى بعد محمّد بن عيسى؟ وماذا عن استدامة عمران أصيلة بعده؟ وهنا يأتي دور المؤسسات، فالأفراد، مع كلّ ما يوفرونه مِن أسباب النجاح، تبقى المؤسسة أبقى وجوداً، وما نعرفه أن منتدى أصيلة مؤسسة، لا تهمّ مؤسّسها فقط، تهم مملكة المغرب كافة، وتهمّ الثقافة عالميّاً؛ فروّاد الموسم مِن شتى بقاء العالم، مع علمنا أن مئات المواسم، والمهرجانات، والمؤسسات الثقافيّة انطوت صفحاتها برحيل مؤسّسيها أو رعاتها، وهذا لا يُراد لموسم أصيلة، مع الفراغ الكبير الذي تركه مؤسّسه، برحيله المفاجئ للكثيرين، مع أنه في الموسم الماضي وجدناه يُخطّط للموسم المقبل. ومِن العادة السنوية يكون الختام خاصاً بتكريم مجتمع أصيلة: أبرز طفل، وأفضل أمّ، وأهمّ صياد، وأحرص عامل نظافة، وأجدر معلمة ومعلم، وكلّ المتفوّقين بين فئاتهم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق